من الوضوح بمكان أن القرآن الكريم لعب دورا هاما في نشأة قواعد النحو العربي وسن قوانينه، كما أن النحو من جانب آخر لعب دورا بارزا في تفسير القرآن الكريم وكشف أسراره وإظهار يواقيته ودرره. وظهرت الضرورة و الاهتمام الجادان والكبيران بالنحو من قبل اللغويين والنحاة بسبب الفساد في لغة أهل العربية و انتشار اللحن في ألسنة المتحدثين بلغة الضاد نتيجة اختلاط العرب بغير العرب بالمعيشة أو المصاهرة أو التجارة أوغير ذلك. وبسبب دخول الأعاجم في الإسلام ومحاولتهم لفهم القرآن الكريم ووقوعهم في أخطاء، فخاف الغيورون من علماء المسلمين على اللغة العربية من الضياع وعلى القرآن الكريم من سوء الفهم والتحريف كما حصل للكتب السماوية السابقة؛ فبدأوا باستجماع اللغة من طريق الرحلات المختلفة بين القبائل العربية واستماع أقوال العرب الفصحاء وحفظ أشعارهم ثم وضع القواعد حسب تلك المسموعات.
منذ أن وضع العلماء باكورة القواعد النحوية اتخذوا في سن القوانين مناهج و أسسا خاصة بهم، فمن هنا اختلفوا في الأصول التي اتخذوها، وهذا ما جعل النحاة ينقد بعضهم بعضا وأدى اختلافهم في مناهج الدرس النحوي إلى الانقسام إلى مذاهب نحوية عديدة مثل مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة ومدرسة الأندلس ومدرسة مصر ومدرسة بغداد، ومعظم أئمة النحو يتبع إحدى هذه المدارس، وثمة علماء لم يتبعوا تلك المدارس بل استقلوا بآراء خاصة بهم؛ بل هناك علماء عاشوا في دائرة مدارس نحوية خاصة ولكنهم خرجوا عليها في بعض الآراء، فكانت أصول مدرسة البصرة تختلف بعض الاختلاف عن الأصول والمعايير المقبولة عند الكوفيين وهكذا بقية المدارس النحوية، وهذا ما أدى إلى الاختلاف في النتائج التي توصلوا إليها.
منذ بدايات التأليف في النحو العربي عني بعض النحاة بالجانب النظري في النحو والبعض الآخر اهتم بالجانب التطبيقي، سواء في القرآن الكريم أو الشعر العربي أو الحديث النبوي الشريف أو غيرها من فنون القول.
من أبرز الشخصيات والعلماء الذين اهتموا بالجانب التطبيقي والنقدي للنحو من خلال الدرسات القرآنية الإمام أبوحيان الأندلسي صاحب تفسير “البحر المحيط” والذي ألف كتبا عديدة في النحو النظري أيضا منها ارتشاف الضرب من لسان العرب وشرح التسهيل للإمام ابن مالك وتذكرة النحاة ومنهج السالك وغيرها. فأبوحيان مشهور بقدرته الفائقة على نقد آراء النحاة، فمن خلال توجيه النص القرآني نحويا في تفسيره البحر المحيط نقد آراء معظم النحاة سواء كانوا من متبعي المذاهب النحوية(البصرة والكوفة والأندلس ومصر وبغداد) أو كانوا مستقلين غير داخلين في دائرة المذاهب المذكورة، وأكثر الشخصيات الذين تعرضوا لنقد أبي حيان في تفسيره البحر المحيط هم أبوعبيدة، والأخفش الأوسط، والفراء، وجارالله الزمخشري، وابن عطية، والعكبري وابن مالك.
وقد أشار أبوحيان من خلال مناقشاته لآراء أولئك الأعلام إشارات غير جلية و غير واضحة إلى الأصول التي يبني عليها نقده لهم، هذه الأصول مهمة جدا لدارس اللغة العربية، ومن هنا جاءت فكرة هذا المقال، فإنه يهدف إلى كشف تلك الأصول والأسس التي اختارها أبوحيان لنقد الآراء النحوية لكبار اللغويين والنحاة، وقد أشار إليها إشارات عابرة في ثنايا تفسيره ومن خلال كتبه الأخرى فاقتضى الأمر أن أقوم بجمع مناقشاته وأنواع النقد التي وجهها إلى النحاة ثم أدرسها في ضوء الأصول النحوية المفضلة عنده والأصول المذكورة عند علماء أصول النحو المتفق عليها لدى النحاة ليبرز من خلال ذلك الصواب والخطأ في نظريات أبي حيان النحوية.
قبل أن أشرع في سرد أصول نظرية النقد النحوي عند أبي حيان أريد أن أبين رأيه باختصار شديد في المذاهب النحوية وأهم المصطلحات والأساليب التي استعملها في توجيه النقد لها.
إضغط هنا للتحميل.